لقد شكلت نظرية الجحود المبتسر للالتزامات العقدية ، معلما بارزا من
معالم تطور القانون الانكلوامريكي وتفرده من بين معظم الأنظمة القانونية ودليلا لا يرقى إليه الشك في قدرة القضاء الانكلوامريكي في خلق وإنشاء النظريات القانونية لإيجاد الحلول العادلة للوقائع التفصيلية التي تقع في الحياة القانونية العملية في الأحوال التي تعجز فيها النظريات القانونية التقليدية في إيجاد الحلول لها.
وللتزود بفكرة عن موضوع البحث هذا، وجدنا من المناسب أن نتناول هذه
المقدمة في ثلاث فقرات نخصص الأولى منها لجوهر فكرة البحث والثانية لأهمية البحث من الناحية العملية، ونفرد الثالثة منها لخطة البحث.
أولاً: جوهر فكرة البحث
تستند نظرية الجحود المبتسر للالتزامات العقدية على فرضية أساسية
مفادها: اذا كان من المسلم به في ظل الأنظمة القانونية المختلفة ان الرابطة
القانونية الناشئة عن الالتزامات العقدية ذات التنفيذ المؤجل تقوم على ان الدائن ) قد منح مدينه الثقة والائتمان في تنفيذ لالتزاماته عند حلول ميعاد استحقاقها، ) 2
فان تلك الثقة وهذا الائتمان يتقوضان في كل الأحوال التي تطرأ فيها ظروف من شأنها أن تحمل الدائن على الاعتقاد بأن مدينه سوف لن ينفذ التزامه اذا ما حان اجل تنفيذها اما لتصريحه بعدم رغبته في التنفيذ او لعدم قدرته على تنفيذه من الناحيتين المادية او القانونية مما يمنح الدائن الحق – طبقا لهذه النظرية – في فسخ العقد بشروط معينة – قبل حلول الأجل المضروب لتنفيذ تلك الالتزامات.
ولقد أثارت نظرية الجحود المبتسر للالتزامات العقدية إشكاليات قانونية
متعددة، فثار جدل فقهي عميق حول أساسها القانوني وشكك البعض من الفقه
الإنكليزي والفرنسي فيها لافتقارها إلى أساس قانوني متين لخروجها عن الإطار التقليدي في نظرية الفسخ والتي تشترط أن يكون المدين قد اخل بالتزامه العقدي بعد حلول اجل هذا الالتزام حتى يكون ذلك سببا يبرر للدائن فسخ العقد المبرم ولايمكننا القول من الناحية القانونية بان المدين قد اخل بالتزامه لمجرد تصريحه أوضعف قدرته على تنفيذه، فضلا ان مسايرة منطق هذه النظرية يودي بالضرورة إلى الانتقاص من القوة الملزمة وذريعة قد يلجا لها الدائن للتخلص من عقد أصبح غير ذي جدوى بالنسبة إليه. وقد رد أنصار هذا النظرية بالقول ان نظرية الجحود المبتسر للالتزامات العقدية لا تستند الى المدين قد اخل بالتزامه ألعقديه فهذا الالتزام لما يحن اجله حتى يخرق، بل تستند الى واجب عام مفروض بحكم القانون يفرض على المدين الا يقوم بأي سلوك من شأنه ان ينقض تعهده بتنفيذ التزامه،غير ان التبرير الأبرز لأنصار هذه النظرية هو الفائدة العملية لتبني هذه النظرية في تسوية المراكز القانونية القلقة فليس من المنطق القانوني في شيء انتظار حلول اجل تنفيذ التزام أثبتت الوقائع أن المدين به غير قادر على تنفيذه، فضلا
على ان تبني هذه النظرية يحقق فائدة كبيرة للمدين كذلك اذ انها سوف تقلل كثيرا من مقدار الأضرار التي سوف تصيب الدائن والتي يجب ان يتحملها المدين عبء تعويضها لو انتظرنا حلول اجل تنفيذ الالتزام وهذا ما يدعو اليه معارضو هذه النظرية.
ولم تقتصر الإشكاليات القانونية لنظرية الجُحود المبتسر على أساسها القانوني بل امتدت إلى طبيعة وأنماط الوقائع التي تعتبر جحودا من المدين لعقده، وقد استقر القضاء الانكلوامريكي وتبعه في ذلك القضاء التجاري الدولي على أن تلك الوقائع المشكلة لجحود المدين يجب ان تكون من القوة بمكان بحيث تحمل دائنا معتادا على الاعتقاد بأن مدينه سوف لن ينفذ التزامه اذا ما حان اجل تنفيذ هذا الالتزام اما لان المدين قد صرح بعدم رغبته في تنفيذه او لان طرأت ظروف عليه جعلته غير قادر على تنفيذه.
ولم تقتصر إشكاليات نظرية الجحود المبتسر للالتزامات العقدية على الأساس القانوني لهذه النظرية أو طبيعة الوقائع المشكلة لجحود المدين لعقده، بل امتدت الى النتائج المترتبة عليها سوى فيما يتعلق بحق الدائن في فسخ عقده ابتسارا )أي قبل حلول اجل تنفيذ التزام المدين( او نطاق التعويض الذي يستحقه الدائن. فذهب القضاء الإنكليزي وتبعه في ذلك بعض من الفقه هناك على ان حق الدائن في فسخ العقد ابتسارا ينشأ تلقائيا وما يترتب عليه من تعويض ينشأ تلقائيا من واقعة جحود المدين لعقده ويقتصر دور القضاء – عند رفع الدعوى إليه – على تقرير فيما إذا كان الدائن محقا في فسخ عقده تبعا الى سلوك المدين وتقرير فيما اذا كان هذا السلوك يعتبر واقعة مشكلة لجحود المدين لعقده ام لا. بينما ذهب قانون التجارة الموحد الأمريكي وتبعه في ذلك غالبية الفقه والقضاء التجاري الدولي على ان حق الدائن في فسخ العقد ابتسارا لا ينشأ بشكل تلقائي بل هومرهون بإرسال الدائن أشعارا إلى مدينه يدعوه فيه الى تقديم ضمانات تؤكد قدرته على تنفيذه وان حق الدائن في فسخ العقد ابتسارا وما يستتبعه من تعويض ينشأ من اللحظة التي يعجز فيها المدين من تقديم تلك الضمانات في وقت معقول.