القانوني تحريرًا وتأصيلًا، إضافةً إلى اهتمامه بالتحليل اللغوي للمفاهيم القانونية، وهذا التميز في مذهب كلسن قد يُعزز من فرضيةِ هذه الدراسة، وهي تأثر الفقيه كلسن بالتحول الذي شهده القرن العشرين في علم المنطق من المنطق التقليدي إلى المنطق الرياضي، بقيادةِ فلاسفةِ المدرسة التحليلية.
ومن هذا المنطلق يدرس هذا المقال الأصول التاريخية والفلسفية لمذهب الفقيه كلسن، في ضوءِ فرضيةِ تأثره بالفلسفة التحليلية المبكرة في موقفهم من المنطق واللغة، ويستند هذا البحث في طرح هذه الفرضية إلى عددٍ من أوجه التشابه في نظرية كلسن في القانون الخالص مع مسلك الفلسفة التحليلية المبكرة. ويتمثلُ الدافع في كتابةِ هذا البحث في قلةِ اهتمام الفقه العربي بالفقيه كلسن، مما استدعى تسليط الضوء عليه؛ بوصفه واحدًا من أهم الفلاسفة المؤثرين في مدرسة الفقه الوضعي الحديثة، كما أن هذ البحث قد يكون مدخلًا مُهمًا للمقارنةِ بين أصول الفقه الإسلامي والفقه الغربي.
وقُسِّمَ البحث على ثلاثة مباحث؛ أولها: كان الحديث عن القانون بوصفه نظامًا معرفيًّا، أي بوصفه نظامًا يتألفُ من مجموعةٍ من الحقائق التي تجمعها رابطة منطقية ضرورية، ثم كان الحديث في المبحث الثاني عن الفلسفة التحليلية المبكرة وأبرز المشكلات الفلسفية التي حظيت بعنايتها، وتناول المبحث الثالث الآثار المحتملة للفلسفة التحليلية المبكرة لدى كلسن. وقد اتّبع البحث في دراسة الفرضية المنهج التحليلي الاستقرائي
وقد توصل البحثُ إلى أن كلسن في صياغته للنظرية المحضة في القانون قد يكون وقعَ تحت تأثيرِ الفلسفة التحليلية المبكرة؛ فجاءت نظريته متشابهةً لمسلكهم في الغاية والمنهج؛ حيث اشترك كلسن معهم في اتّباع منهجٍ صارمٍ في المنطق لتمييز المنطق القانوني معرفيًّا بشكل يحقق له ذاتيته من داخلهِ دون حاجةٍ إلى تبريره عبر نظم معرفية أخرى، كما يشترك كلسن مع الفلسفة التحليلية في مواجهة ما يُسمى بالنزعة النفسية لدى فقهاء القانون، وهي النزعة نفسها التي واجهها فريجه عند الفلاسفة، كما سعى كلسن أيضًا إلى مقاربة المنطق القانوني ومنطق الرتبة الأولى الذي يعتمد بشكل أساسي على الفئات؛ حيث إنَّ حقائق القانون عند كلسن تقع ضمن هرمية منطقية خاصة تنتهي إلى ما يُسمى بالقاعدة القانونية الأساسية، كما يقوم نظام كلسن على الالتزام المعرفي بوجودِ ما يُسمى بالكيانات المجردة، وهي السنن القانونية، وهي كيانات يمكن مقابلاتها بالكيانات الرياضية لدى فلاسفة المدرسة التحليلية.
ويميل البحث إلى القول بعدمِ وجودِ تأثيرٍ مباشرٍ للفلسفة التحليلية على كلسن، وأن التشابه الظاهر بين كلسن والفلسفة التحليلية يُعزَى إلى الثقافة الفلسفية السائدة في القرن العشرين؛ إذ قد يكون كلسن قد وقع تحت تأثير الثقافة العلمية السائدة في عصره التي انعكست بشكل مباشر على نوع ِالمشكلات المطروحة لديه. كما توصلَ الباحثُ إلى أن لكلسن أثرٌ واضحٌ في الفقهاء الوضعيين من بعده؛ إذ أصبح التحليل المنطقي اللغوي سائدًا بين فلاسفة القانون الوضعي إلى يومنا هذا.