قال تعالى )) ان الله يأمركم أن تؤدوا الامانات الى اهلها واذا حكمتم بين الناس
ان تحكموا بالعدل (( 1. فالاية تفيد انه يجب على كل مؤمن ان يحافظ على الشئ
ويرعاه ويؤديه الى صاحبه، ومايهمنا هنا هو الجزء الثاني من هذه الاية والمتعلقة
بعدالة الحكم الصادر من قبل متولي القضاء. فالقضاء بين الناس ليس عملا عاديا،
بل يمكن القول انه ليس عملا آدميا انه عمل الهي، وانه لتجاوز كبير ان يكون
القاضي بشرا ولكنه بشر كيف يقضي بين الناس وهو منهم، به ضعفهم وبه
عيوبهم؟ والقضاء واسع يستلزم الكمال: العدالة، الثقافة الشاملة، المعرفة العميقة،
النظرة والبصيرة المستنيرة، الثبات وقوة الاعصاب، الحكمة والصبر واللياقة
والفطنة واليقظة… الخ. فاذا كان القضاء هو تلك الامانة العظيمة التي ابت
السموات والجبال ان تحملها، فحملها الانسان على ضعفه ورقة حاله، فانة ينبغي
ان يكون القاضي في جميع الاحوال انسانا مثاليا، وهذا اضعف الايمان وفي الوقت
نفسة اقصى مافي الامكان! فالقاضي المثالي هو الذي يقضي بين الناس بالحق
والعدل والذي تنزه عما يختلج في نفس كل انسان مما يدري ولايدري.
ومن جانب اخر فان القضاء هو المثال الوحيد للعمل الذي يستلزم جهاد
الشخصية بكاملها، فكل عمل من الاعمال يستطيع الانسان ان يؤديه بجانب من
نفسه فالتعليم والطب والهندسة وغيرها يحتاج كل منها الى ملكة او مهارة اودراية
خاصة بينما القضاء تمتد جذوره فتحيط بكل اصل من حياة القاضي: عقلية او
عاطفية او انفعالية او مزاجية او ارادية اوصحية او عائلية… الخ فاذا جلس
القاضي على منصة القضاء اوخلا الى نفسه ليصدر الحكم فانه لا يستطيع ان
يفصل شخصيته كقاض عن شخصيته كانسان تمام الفصل، ومن هنا حف طريق
القضاء بالمخاطر والصعوبات، فالقاضي كأنسان عرضة لان يقع تحت تاثير
الايحاء فيفسد عمله وحكمه، وخليق بأن تنطوي نفسه على جراح وندوب قديمة
او حديثة، واتجاهات وميول عامة او خاطئة تؤثر في حكمه ابلغ التأثير، والقاضي
بعد ذلك مطالب بأن يصيب في حكمه كبد الحقيقة فلا يدين بريئأ اويبرئ جانيا،
وان يوقع على الجاني نصيبه من العقاب دون مبالغه في القسوة او اسراف في
الرحمة ليصل بذلك الى عدالة الحكم الذي يصدره.
واذا كان القضاء على هذه الدرجة من الخطورة والحساسية نظرا لاهمية
موضوعه، وهو الفصل بين المتقاضين، فأنه يتطلب في القائم على هذه الوظيفة
ان يكون محايدا حيال النزاع المعروض عليه كي يتسنى له البت فيه بموضوعية،
فمنذ ان اهتدى الفكر البشري الى القضاء تطلب من القاضي ان يكون محايدا وهذه
الحيدة لاتوجدها الصدفة، وانما تكتب من خلال التزام مسلك حازم اثناء مباشرة
مهنة القضاء وبوحي من تقاليدها.
وقد تكفلت القوانين الاجرائية بوضع الوسائل الكفيلة بضمانها بثا للطمأنينة
لدى المتقاضين، لذلك يأتي هذا البحث المتواضع ليسلط الضوء على هذا
الموضوع الحيوي والمهم محاولاً: ايجاد اساسياته المهمة وصولا الى تبيان اهم
العوامل التي تؤثر في نزاهة القاضي وعدالة حكمه بغلبة النزعات الذاتية على
القانونية عند اصدار الاحكام.