إن لتراثنا الادبي العربي جاذبية وهوسا لا ينفك يغري الدارسين والباحثين قديما وحديثا عن البحث في مكامنه وعوالمه الخفية التي تنطوي في جزء غير قليل منها على مفارقات ومتضادات اكتنفت هذا التراث بمختلف صنوفه الأدبية التي انضوت تحت مضماري الشعر والنثر. ولعلنا لا نخطئ الصواب إذا قلنا ان انشغال معظم الدراسات الأدبية والنقدية ولاسيما القديمة منها بالبحث والاستقراء للنتاجات الأدبية المركزية او الرسمية ــ إن جاز لنا التعبيرـــ مثل تلك التي تستقصي الظواهر الأدبية والنقدية عند هذا الشاعر، أو ذاك، أو تلك الطائفة من الشعراء وسوى ذلك من الموضوعات التقليدية التي شغلت هؤلاء الدارسين عن البحث في الكثير من التيارات الادبية والفكرية التي لا يكتمل تراثنا العربي بدون البحث في مكامنها، بل ومحاولة اقصائها في بعض الاحيان على الرغم مما اشتملت عليه من مكنونات ابداعية اسهمت في اغناء تراثنا الأدبي والنقدي في مختلف عصوره . وكانت ظاهرة انتشار العيارين والشطار بوصفهم فئة خارجة عن القانون وعن سلطة الدولة من ابرز الظواهر التي شغلت مجتمعاتنا العربية القديمة، ولاسيما مجتمع العصر العباسي الذي سبب اهمال السلطة لفئاته المعدمة والفقيرة في سلوكهم طريق العيارة والشطارة، سبيلا للتحقيق العدالة الاجتماعية التي اقرها التشريع الالهي والوضعي في آن. وقد رافق هذا النشاط السياسي لهذه الفئة الاجتماعية نشاط ادبي واسع ومتنوع انطوى في مكنوناته على العديد من المفارقات والمتضادات ومنها المفارقة الدينية والاخلاقية التي نلمح وجودها في سيرهم وحكاياتهم البطولية والملحمية الشعبية، فضلا عن اشعارهم التي كشفت في كثير منها عن الجانب الوجداني لهذه الفئة ولاسيما المتصل منه بالتوجه الديني والاخلاقي الذي مالبثوا يدافعون عن وجوده بل ورسوخه في سلوكياتهم وإن كانت تسير في اطار السلب والاغارة على فئة الأغنياء والميسورين واصحاب النفوذ تحديدا ، كونهم احد ابرز عوامل تهميشهم واقصائهم. وعلى الرغم من أن الغاية لا تبرر الوسيلة إلا ان الواقع الأدبي لفئة العيارين والشطار يشير بشكل واضح الى دور اجتماعي وديني لا يستهان به أداه ابطال انتموا الى سير وحكايات هذا التيار الشعبي، اثروا في المجتمع تأثيرا ايجابيا من خلال رسوخ الوازع الديني والاخلاقي في نفوسهم، وإن كان في سلوكهم السلبي ما يثير في ذهن القارئ مفارقة عن كيفية الجمع بين هذين النقيضين: الاعتقاد بالدين والاخلاق من جهة والسلوك الذي ينفي هذا الاعتقاد من جهة اخرى .وهو ما حاولنا الايغال في كوامنه وصولا الى ما يثبت او ينفي هذا النوع من المفارقة في ادب العيارين والشطار .