يمكن القول إن الاتجاهات في قراءة التاريخ وتدوينه لأية أمّة من الأمم تتعدّد بتعدّد الغايات والتحزّبات في تلك الأمّة، فإنّ تعدّد الحركات السياسية والمذاهب الدينية والولاءات القومية والمصالح الشخصية يوجب تعدّد الاتجاهات والقراءات للواقعة الواحدة، ويحتّم الاختلاف في النظر والرؤية لتلك الحادثة، ومن ثمّ في تحليلها وتفسيرها، بل في تصديقها والأخذ بها أو تكذيبها والإعراض عنها.
فالمادة التاريخية وكيفيّة قراءتها وتأويلها غالبا ما تكون مثارا للخلاف والتباين بين أصحاب التوجهات المختلفة؛ فكلّ – حسب العادة والطبيعة البشرية - يقرأ التاريخ ويدوّنه بما يوافق معتقده ومذهبه.
ولم يكن تاريخنا الإسلامي بمنأى عن ذلك، فقد تعدّدت قراءاته وتباينت أحداثه؛ بحسب توجهات المؤرّخين وأهوائهم، وانعكاس التحيّزات والانتماءات السياسية والمذهبية على ما سطّرت أقلامهم، وكان حصيلة ذلك عدم التمكّن من معرفة تاريخنا الإسلامي كما كان، ولم يصلنا إلا تاريخ مشوّش مضطرب، لا يكاد يصمد أمام النقد والفحص، ولا يقاوم أمام التنقيب والبحث، يَحكي ويُخبر عن سيرة كلّ مَنْ تربّع على كرسيّ الحكم والخلافة، وكلّ مَنْ حَكَمَ باسم رسول الله صلّى الله عليه وآله مهما كانت نواياه وغاياته، فيعطي عناية خاصة لتاريخ الخلفاء والملوك، ويُغضي ويتعامى عن الخط الرسالي الأصيل المتمثّل بالقادة الربانيين الذين نصبهم رسول الله صلّى الله عليه وآله لحفظ الرسالة وصيانتها من التحريف، والذين تفرّدوا بكتابة التاريخ الإسلامي على أصوله، من دون زيف وتشويه، ولا مصانعة وتحريف، بالرغم من حظر السلطات الحاكمة للتدوين، والضغط الذي كانت تمارسه على الصحابة والتابعين.
ويمكن القول ان الاتجاهات الإسلامية في كتابة التاريخ، منها: ما أكل عليه الدهر وشرب، ومنها: ما اندمج وانصهر في غيره، وعلى ضوء ذلك لم يبق - اليوم - الا اتجاهين رئيسيين مختلفين متفاوتين في قراءة التاريخ وتدوينه، لكلّ منهما أسلوبه ومنهجه، ومتبنياته وثوابته.
الاتجاه الأول لأهل السنة والجماعة، او مدرسة الحكم والخلافة، حيث انطلقوا من فكرة أن الصحابة يمثّلون المصدر الوحيد والواسطة التي تربط بينهم وبين النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله، فحكموا بعدالة جميع الصحابة، ولزوم الأخذ عنهم من دون بحث وتحقيق، وعدم جواز الجرح والتعديل في حقّهم، ولا السؤال عن عدالتهم، بل أنه أمر مفروغ منه.
والاتجاه الثاني لأتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، حيث اعتقدوا بأنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام مُنَصّبون من قبل الله سبحانه بعد النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله، ووجوب اتّباعهم، والأخذ عنهم، وتقديمهم على جميع الصحابة بدون استثناء.
وهناك اتجاه ثالث يمثّله المستشرقون، وله انعكاسات قد تكون خطيرة في بعض جوانبه على تقديم التاريخ الإسلامي وروايته، لا دخل له بنظرة المسلمين الى الغاية والهدف من كتابة التاريخ الإسلامي، بل لهم دوافعهم وغاياتهم وأهدافهم الخاصة.
وسوف نركّز في هذا البحث على خصوص القواعد التي كان لها تأثير وفاعليّة في تصنيف المؤرّخين المسلمين الى هذين الاتجاهين؛ اتجاه أهل السنّة والجماعة واتجاه أتباع أهل البيت عليهم السلام؛ وذلك لأن القواعد العامة في كتابة التاريخ العام والتاريخ الإسلامي بالخصوص قواعد مشتركة غالبا؛ لا خلاف فيها إلا في بعض الجزئيات والتفسيرات التي يتبنّاها هذا الاتجاه أو ذاك.