إنّ تاريخ الكتابة هو تاريخ الإنسان وهو يطوّر من وسائل عيشه وتقنيات سيطرته على الطبيعة وترويض توحّشها وتسخيرها لخدمته وراحته والكتابة هي صورة لهذا الإنسان في صيرورته التاريخيّة وهو يجتهد في أن يكتب وجوده على الحجر والشجر ثمّ جلود الحيوان وصولا إلى الورق الذي عرف بدوره تطوّرا مذهلا من العصور الوسطى وبعد الثورة التكنولوجيّة إلى اليوم في إخراجه على أحسن وجه شيئا فشيئا .
ننشغل في هذا المقال بالكتابة بوصفها فعلا إنسانيّا ووجوديّا استقطب اهتمام العرب القدامى، لاسيما في مجال الأدب وذلك من خلال النظر على وجه الخصوص في الفعل الكتابي في بثّه وتقبّله ومن خلال علاقته بالأدوات التقليدية المستعملة في الكتابة مثل الحبر والورق والقلم. ولم يمنعنا اعتمادنا على مدوّنة عربيّة قديمة من رصد التحوّلات التي عرفتها الكتابة بانتقالها إلى المرحلة الالكترونيّة لما في ذلك من أهميّة، لا يمكن فيها فصل الحديث عن القديم . ونعني بالكتابة في هذا السياق دلالتها الأولى التي أطلق عليها العرب القدامى تحبيرا (من الحبر) دون أن نهمل دلالتها الحافة في معنى الكتابة الإنشائيّة الإبداعيّة التي تجد أفضل تعبيرا لها في الأدب. وإذا كنّا قد انشغلنا بصفة خاصة بنظريّة العرب في الكتابة من خلال الجاحظ على وجه الخصوص وتتبّع رموز أدواتها في المتخيّل العربي الإسلامي بالتفكيك والتحليل والتأويل، فإنّنا لم نهمل الإشكالات التي تعيشها الكتابة العربيّة المعاصرة في دلالتيها المذكورتين في عصر العولمة الالكترونيّة محاولين -لفهمها- الاستفادة أكثر ما يمكن من المعارف الانتروبولوجيّة الحديثة متسلحين في ذلك بأهم المناهج التحليلية الدقيقة، لنقف على أهمّ التداعيات النفسيّة والثقافيّة -من وجهة نظر انتروبولجية- على الكاتب الباث والقارئ المتقبّل.