يتناول هذا البحث الأهمية الأنثروبولوجية لأولية الشعر العربي، ودراسة ثقافية لمرحلة تدوينه.
تهتم الدراسات الثقافية الأنثربولوجية الثقافية بكل ما ينتجه الإنسان بعيدًا عن الوراثة، فالثقافة بنية متغيرة ومتطورة، وليست بنية ساكنة متوارثة من جيل إلى آخَر. ولذلك فلدراسة ثقافة شعب في مرحلةٍ ما، يجب الاهتمام بطريقة تمثل تلك البنية/ سيرورة المعنى ثقافيًّا، هذا الأمر يتطلب بحثا في ثقافة اليومي والعمومي، وليس الاهتمام بالأدب الرسمي أو أدب المركز الذي ينتج مقولات كبرى لا تكشف عن نشاط الأفراد في حياتهم اليومية، إنما هي مفاهيم ثابتة صيغت بوعي جمعي نخبوي.
يمكننا القول إنَّ الأراجيز أو المقطعات أو الأبيات التي تعبّر عن أوليات الشعر العربي، كانت قد تعرضت لإقصاء وتهميش في المرحلة الأولى من مراحل كتابة الثقافة العربية؛ لأنها قورنت بأدب النخبة، الأدب الرفيع، الأدب المكتمل فنيًّا ولغويًّا، أدب أسواق مكة آنذاك.
وهناك أمرٌ آخرُ، وهو أنَّ تلك الأراجيز والمقطعات والأبيات كانت قد استُبعدت من قبل أهل العلم وعلماء اللغة في جهودهم نحو وضع القواعد اللغوية والنقدية؛ لأن القاعدة تقوم على ما هو شائع ومطرد، عام، فصيح، أصيل، وليس على كل ما هو شاذ أو نادر. وتلك النصوص كانت ارتجالية عفوية لم تخضع لتقنين فني أو موضوعي، فهي تعبر عن ممارسة عملية يومية وليس أدبًا نخبويًا، بدأت مع نشاط البدوي العربي الأول في الصحراء (الحادي، الدليل)، فهي تمثل البدايات الأولى لتأسيس الذاكرة الجمعية العربية، حين بدأت خطى العرب الأولى نحو العيش في مجموع، والاندماج في القبيلة بأواصر ذهنية مجردة تجمع بين أفرادها وتقوّي وجودهم، تمثلت بالشعر: كلام مقطع موزون يسهل على الذاكرة حمله في كل مرة يرتحلون فيها من مكان لآخر بحثا عن الماء والكلأ.
كانت أوليات الشعر فنًّا آنيًّا، إلّا أنها مثّلت تأملًا في مفاهيم مجردة سبقت عصرها، فمفهوم الزمن مثلا؛ إذ أدرك البدوي رغم بدائيته في وسائل عيشه أنَّ ما يقهر الإنسان ويغلبه هو الزمن، فحاولَ تجاوزه بقدرته اللغوية، إنها قدرته على قول فني يخلد بعد موته وانتهاء زمنه في الحياة.
إنَّ معرفة تلك النصوص البدائية في فنها أمر مهم؛ لأنها تشكّل الهوية الثقافية التي تتشكل من كل ما ينتجه الأفراد من الحكايات، الأساطير، القصص الشعبي، الفن الارتجالي وغير ذلك، بعيدًا عن تصنيف الأعلى/ الأدنى، المركز/ الهامش، النخب/ العامة. وكلما ازداد الخزين الثقافي المشترك في الذاكرة الجمعية بين الأفراد، امتلك هؤلاء الأفراد في تجمعهم هوية تعبّر عن نفسها أولًا، ومن ثم تميزها عن غيرها دون ذوبان أو محاكاة، هي هوية تستند إلى خزين ثقافي، لذا فهي قادرة على أن تكوّن ذاتها في كل مرة تنفتح فيها نحو الآخر المختلف.