تعد محلة الكراد من المحلات العريقية في مدينة الحلة ([i]) ، فقد كانت واحدة من أقدم المحلات التي شكلت نواة المدينة عند تأسيسها سنة 495هـ / 1101م ([ii]) على يد الأمير صدقة بن منصور الأزدي الملقب بسيف الدولة ([iii]) واتخاذها أي مدينة الحلة عاصمة (للإمارة المزيدية) ([iv])بعد انتقاله من مدينة النيل مركز الدولة الاول (5). وتشير المصادر الى ان نواة مدينة الحلة قد تركزت اولا على الجانب الغربي لنهر الفرات ، متمثلة بمحلتين الأولى : الجامعين ([v]) التي بنى فيها صدقة القصر (دار الإمارة) وتوزعت بيوت الأزد ومن معهم على محيطها ، وأقيمت محلة الكراد متزامنة معها والى الشمال منها لتكون مقرا للجند الكرد المنحدرين من قبائل الجاوان والشاذنجان ([vi]) الذين اعتمد عليهم في جيشه المتكون نسيجه من العرب والكرد ويبدو ان لهذا السبب قد أطلق على هذه المحلة اسم محلة الكراد ([vii]) والتي لا زالت بعض العوائل من سليلي تلك القبائل الكردية تقطن في تلك المحلة الى يومنا هذا.
وظلت المحلتين وعلى مدى قرن من الزمن تفصلهما مسافة تقدر بحدود كيلومتر غير مأهولة وخالية من السكن وليس فيها عمران ، كما لم يتعد العمران عند النشأة الى الجانب الشرقي الذي ظل اقليما زراعيا. ثم اتسعت المدينة بعد ذلك وأقيمت محلة الجباويين ([viii]) في عام 556هـ 1201م ([ix]) في منتصف المسافة بين المحلتين الجامعين والكراد. وامتدت محلة الجامعين شمالاً لتشمل محلات جديدة هي الطاق وجبران وهما من المحلات المهمة لاحتوائها على مراقد كثير من علماء الحلة ورجالاتها ([x]). هذا فضلا عن محلات المهدية والتعيس ، حتى التحمت المحلتين الجامعين والكراد بعد ذلك التوسع لتشكل قصبة الحلة القديمة (الخارطة رقم (1)) ومن ثم امتد العمران عبر نهر الفرات الى الجانب الشرقي أيضا وأقيمت محلة كلج الوردية ، وتوسعت هذه المحلة فيما بعد وانفصلت الى محلتين هما الكلج والوردية ([xi]). ومدينة الحلة شأنها شأن المدن التي لازالت عامرة بالسكان – أي ليست من صنف المدن المهجورة – فقد تعرضت الى طمس معظم معالمها العمرانية لاتساع عمارتها الحديثة عبر الأجيال ، وما عانت من الأحداث التاريخية التي مرت بها من حروب وتمردات وكوارث ، هذا فضلا عن عدم الاهتمام بالأبنية القديمة والمحافظة عليها ، بل على العكس من ذلك كان التجاوز على تلك الأبنية مباحا وعادة من عادات القوم ([xii]) ، فعندما يرومون اقامة بناء جديد يعمدون الى قلع مواد البناء من الابنية القديمة لاستخدامه في الأبنية الجديدة مما سبب ذلك ضياع معالم الكثير من أبنية المدينة وصروحها العمارية ، فلم تشهد مثلاً ولو إطلالا لقصر صدقة بن مزيد او جامع المدينة الأول او سورها وخندقها ، او غيرها من معالم المدينة التاريخية ومن ثم غياب عامل التوثيق الذي قد يسعفنا في إعطاء صورة عن اوابد المدينة القديمة قبل ان تتعرض الى الهدم وإقامة الأبنية الحديثة العصرية ، كل ذلك قد سبب في ضياع تراث المدينة الأصيل .
(([i] الحلة بالكسر ثم التشديد وتعني في اللغة القوم النزل ، ويبدو ان المعنى الاصطلاحي للحلة قد ارتبط بقوم صدقة من المزيدين الذين حلوا في هذا المكان وأقاموا المدينة الجديدة ، ياقوت الحموي ،شهاب الدين ابي عبد الله ، معجم البلدان ، ط2 ، دار صادر بيروت 1995م جــ2،ص294 . وللمزيد من التفاصيل عن أسماء الحلة ومرادفاتها ينظر ، حسون ، محمد ضايع ، الحلة في العصر العباسي ، دراسة في أحوالها السياسية والإدارية (495 – 656 هـ / 1101 – 1258م ) ، دار الكفيل للطباعة والنشر ، 2014م ، ص53 – 54 .
(([ii] ابن الجوزي ، ابو الفرج عبد الرحمن ,المنتظم في تاريخ الملوك والامم، جـ 9 ، ص132 ، ابن الأثير ،عز الدين ابو الحسن, الكامل في التاريخ ، بيروت 2006م,جـ 8 ، ص480 .
(([iii] ينظر ، حسون ، محمد ضايع ، الأمير صدقة بن منصور المزيدي مؤسس الحلة ، مجلة جامعة بابل ، العلوم الإنسانية ، المجلد الأول ، العدد الأول لعام 1996م ، ص60 .
(([iv] ابن خليكان ، ابو العباس شمس الدين احمد وفيات الأعيان وانباء الزمان،بيروت,دت ح2 ، ص490 ، البغدادي ، صفي الدين عبد المؤمن ,مراصد الاطلاع عن اسماء الامكنه والبقاع,القاهره1954م، ح1 ، ص419 .
(([v] حميد،عامر عجاج ، النيل ومنطقتها ،دراسة في الاحوال الجغرافية والادارية والفكرية حتى القرن السابع الهجري ، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية التربية ، جامعة بابل 2004م ص48
(6) الجامعين ، مثنى لكلمة جامع ، وتشير الروايات الى ان أصل التسمية تشير الى وجود جامع قديم ، ثم بني جامع آخر بجواره ، الطبري ، محمد جرير ، تاريخ الأمم والملوك ، تحقيق عبد الأمير علي مهنا ، بيروت 1988م ، جـ 7 ، ص357 ، سهراب ، ابو الحسن بهلول ، عجائب الاقاليم السبعة الى نهاية العمارة ، باعتناء هانس فون ، مزيك ، فينا 1929م ، ص125 ،ناجي ، عبد الجبار ، الإمارة المزيدية ، دار الطباعة الحديثة ، البصرة ، 1970م ، ص249 .
(7) ياقوت الحموي ، المصدر السابق ، ص294 .
(([vii] في حين ان كبار السن في المنطقة يعزون هذه التسمية الى استخدام أهل المحلة الكرود مفردها كرد وهي آلة لرفع الماء من النهر الى قنوات تأخذها لسقي المزارع والبساتين التي كانت تكتظ بها حقول المحلة آنذاك وقد أنجبت هذه المحلة الكثير من الشخصيات المشهورة في تاريخ العراق واشهرهم الشاعر محمد مهدي البصير (مقابلة شخصية مع السيد إسماعيل حسين باقر الياسري من مواليد 1935 بتاريخ 15/12/2016 ).
(([viii] سميت هذه المحلة بهذا الاسم نسبة الى قرية جبة الواقعة في أعالي الفرات ، وسمي جزء منها بالهيتاويين نسبة الى قرية هيت ، وانتقل من تلك القريتين بعض السكان الذين اقيموا في هذه المحلة الجديدة ( ياقوت الحموي ، المصدر السابق ، جــ2 ، ص108 ، الحلي ، الشيخ يوسف كركوش،تاريخ الحلة ، المطبعة الحيدرية ، النجف ، 1965م ، جـ 1 ، ص55 .
(([ix] ياقوت الحموي ، المصدر السابق ، جـ 2 ، ص108 .
(([x] ينظر ، نوري ، خليل إبراهيم ، خطط الحلة في القرن الثامن عشر ، دار الضياء للطباعة ، النجف الأشرف 2008 م ، ص25-30 .
(([xi] ينظر الغياثي ، عبد الله بن فتح الله البغدادي ، التاريخ الغياثي ، تحقيق طارق الحمداني ، بغداد ، 1975 ، ص262 .
(([xii] ان الأمثلة على هذا الموضوع كثيرة ، وقد كان شائعاً منذ عصر مبكر ، فقد بني زياد ابن أبيه ، مدينة البصرة بمواد منقوله من أبنية ساسانية قديمة ، وبنيت مدينة الكوفة بمواد بنائية نقلت لها من خرائب الحيرة ، الجنابي ,كاظم,مسجد =الكوفة ,بغداد 1966 ,ص55 0وعقد الباحث مصطفى ,غسان فصلا في رسالته (تيجان الاعمدة )المقدمه الى كلية الاداب –جامعة بغداد2013 بعنوان خاصية النقل من الابنيه القديمة ,ص119 -142